عبدالإله الوزاني التهامي
في ظل تخاذل جيل بأكمله من كل الطبقات أمام جاذبية المادة وجاذبية الغرائز وجاذبية حب الذات والنفوذ والتسلط، حيث لهث اللآهثون الذين يتخبطهم الشيطان من المس، حتى صاروا بلا اطمئنان روح ولا استقرار حال، وبلا قرار ولا سلطة ولا اختيار، في حالة حيرة وشرود مبعثري الرأي والفكر والنظر، في ظل هذه الظروف وفي خضمها سيولد من رحم الوطن والإنسانية رجل إسمه مولاي عبدالله الشريف منقذ المغرب والعابر به من مرحلة مفصلية انتقالية مصيرية، من فتن اللآستقرار إلى قوة السكينة والقرار. فكان الاقتصاد بالنسبة إليه أسلوب معبد للطريق نحو الله، عبر مداواة النفوس وتسليح العقول وتنوير القلوب، قيل لأبي الحسن في سياق متصل : “أيها الشيخ، أنت تدعو الناس إلى الله والإعراض عن الدنيا، وتلبس أحسن الثياب وتأكل أطيب الطعام، فكيف هذا؟، قال: “كل ما يصلحك لله فافعله، إذا صلح حالك مع الله بلبس لين الثياب وأكل أطيب الطعام فلا يضرك”، يخص الأمر الفرد ويخص الجماعة، وهذا في عرف الصوفية صفاء للفكر وزيادة في الشوق وسعي نحو القرب وتوق إلى المحبة وتشبث بالمعرفة، وبهذا وعليه بنيت قاعدة أن الصوفي ابن زمانه، فهو مسلك روحاني وخبير اقتصادي ومرب اجتماعي ومروض نفسي ومهندس استراتيجي. ارتبط المغاربة بمختلف فئاتهم وشرائحهم وأعراقهم بالتصوف ارتباطا وثيقا وجليا على امتداد التاريخ وفي كل مجالات حياتهم. لهذا شكل التصوف لحد الآن وبشكل رسمي أساسا بنيويا ثابتا للهوية الدينية الإسلامية للمغاربة، وحظي برعاية مباشرة كبرى من لدن رمز الدولة الأسمى ومن لدن الدوائر السيادية العميقة. إن التصوف كتراث إنساني كوني عرف بالغنى المطلق في كل ما يتعلق بشؤون الإنسان الخاصة والعامة، بما يحبل به من إرث لامادي ومادي عظيم ورثته الأجيال جيلا عن جيل، والمغاربة مجبولون على ذلك تدينا وإبداعا ومعاملة وحبا، إذ فبمجرد الاطلاع على سيرتهم في ممارسة الشعائر وفعل الخير والتحلي بالورع والزهد والترفع عن المغريات وخدمة بني الإنسان، نعرف معدن المتصوفة. لذلك أيضا برع المغاربة في إعلائهم من شأن الأولياء والصالحين وإيلائهم ما يستحقونه من مكانة سامية، أحياءا كانوا يعيشون بين الناس أم أحياءا في مقامات أضرحتهم، يرزقون جميعهم الأنوار الربانية اللآمتناهية. حدث هذا عبر أزمنة متقاربة ومتباعدة، وفي أماكن متعددة ومترامية من التراب المغربي وخارجه. ومما عرف به متصوفة المغرب من مزايا، إسهامهم الكبير -فضلا عن عمارة العقول والقلوب- في عمران المدن وإنشاء التجمعات السكنية، ومن ذلك تكريسهم لثقافة مادية ولا مادية، في سلوك الأفراد والجماعات على يد مشايخ شهد لهم التاريخ بالشموخ والعزة. نعلم أن التصوف ثابت رئيسي في بناء الهوية السلوكية للمغاربة، جنبا لجنب مع العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، علىه مستوى السلوك التجريدي وعلى صعيد الممارسة الطرقية. ونعلم أيضا أن التصوف المغربي له ارتباط قديم بالتصوف المشرقي من حيث أولوية هذا الأخير تأسيسا وانتشارا، كما نعلم أن معالم تأثر التصوف المغربي بالتصوف الأندلسي غير خفية، شملت القلوب والعقول .. الاقتصاد والعمران. من ناحية أخرى تميز التصوف المغربي بخصوصيات متفردة منها أن زوايا المغرب الصوفية شكلت بحق أنوية لمؤسسات اجتماعية وتربوية ودينية وغيرها، من ذلك نهوضها بوظائف اجتماعية و أساسية، وعرفت بإطعام الطعام وإيواء اللآجئين والغرباء والأيتام والأرامل وعابري السبيل، ومنحت العطايا والهدايا والمساعدات للمستحقين والمحتاجين،-كما سنرى- ولبت دعوة المضطهدين والمستغيثين، وقضت حوائج المرضى والمنبوذين والخائفين، وتصدت لمهمة الصلح والوساطة بين المتخاصمين من القبائل والعائلات والأفراد، بغية إزاحة المضار وجلب المنافع ودفع المظالم وفرض الطمئنينة والسلم. وبرز شيوخ الزوايا وعلى رأسهم الشيوخ الوزانيين على مستوى العلم والفكر والنبوغ والتربية والحكمة، وأثروا تأثيرا بليغا، في القطر وخارجه، عموديا وأفقيا، مما جمع حولهم تلقائيا الآلاف من الأتباع والمحبين والمريدين بل وحتى من يخالفهم ويخاصمهم التف حول مجالسهم وأماكن وجودهم التماسا للخير والبركة والفضل. مما جعلهم يتبوؤون اهتماما كبيرا لدى السلطة المركزية، ويحظون بالقرب من رجالاتها من أعلى الهرم إلى أدناه. من هنا تمكنت الزوايا من المشاركة الميدانية في الجهاد ضد المحتل والمساهمة في تنشيط الدورات الاقتصادية محليا ووطنيا وبناء اقتصاد الدولة.