[success]المواطن24-وكالات[/success]
كل هذا العقل، وكل ذاك العِلم، ويظل الإنسان يفضِّل ألا يرى. لا نرى الأكوان المصغرة التي نعرف يقينًا أنها تحيا حولنا في كل وقت وفي كل مكان، إلا حين يجتاح عالمنا فيروس يهدد أنظمتنا. لا نرى أيضًا الأحياء الأكبر التي نستطيع رؤيتها عيانًا. فلا نرى الوطاويط مثلًا إلا حين يخبرنا العلم بأن الرعب الذي نحياه خرج -وسيخرج مجدَّدًا- من ظلمات كهوفها النائية. ولا نرى مخلوقات نادرة وخجولة مثل قط الزباد وأم قرفة إلا حين توسوس لنا الآمال بأن جلودها، وبرازها، قد تجني لنا الثروات. ثم نراها بعيون جديدة حين نعرف أن الفيروسات قد استعملَتها كحلقات وسيطة في مسيرة غزونا.
يفضِّل الإنسان ألا يرى في كل أكوان الله الواسعة إلا ما يغويه بالأمل، أو يطارده بالألم. وحتى تلك المخلوقات التي قد تهددنا بالألم والرعب والموت، لا نكاد نعرف عنها إلا أقل القليل، ولا حتى عن قدر خطورتها الحقيقي. فإذا حاولنا الآن التفكير في أخطر حيوان يهدد حياة البشر، كَم إنسانًا بيننا يمكن أن يفكر في البعوضة؟
في كتابه «البعوضة»، يقول تيموثي وينجارد، أستاذ التاريخ والعلوم السياسية بجامعة كولورادو ميسا، إن البعوض قد تسبَّب على مدار التاريخ في موت 52 مليار إنسان تقريبًا، ما يُقدَّر بحوالي نصف تعداد البشر الذين عاشوا على الأرض! وهو ما جعل وينجارد يتجرأ في وصف البعوضة -في العنوان الفرعي لكتابه- بأنها القاتل الأول للبشرية. ينقل البعوض للإنسان مجموعة كاملة من الأمراض المخيفة القاتلة، على رأسها الملاريا بالطبع. نعرف هذا جيدًا، لكن قلَّما نتأمل قدر آثاره. يدعونا وينجارد إلى إعادة النظر في حجم الدور الذي لعبه البعوض في تاريخنا البشري. فيحكي لنا، على سبيل المثال، كيف كان البعوض في بنما سببًا في خضوع اسكتلندا للتاج الإنجليزي وتضحيتها باستقلالها!
في أواخر القرن السابع عشر أرسلَت اسكتلندا -في مغامرة مدفوعة بالأمل في الخروج من الفقر والمجاعات- خمس سفن تحمل حوالي 1200 من مواطنيها إلى بنما، بغرض الاقتداء بالدول «العظمى» وتأسيس «مستعمرات» في العالم «الجديد» تجلب الثروات والوفرة. لكن المستعمرين الاسكتلنديين لم يقضوا على مجاعات بلدهم، وإنما أصبحوا هُم طعامًا طازجًا للبعوض الذي وقعوا تحت رحمته تمامًا ولم يجلب لهم سوى المرض والموت (كانت الملاريا والحمى الصفراء تحصد دستة من أرواحهم يوميًا)، ولاسكتلندا تلك الديون الهائلة، التي أوقعَتها فريسة سائغة للأسد الإنجليزي، حين قبلت اسكتلندا عرض إنجلترا سداد ديونها مقابل التخلي عن الاستقلال.
اسكتلندا نفسها كانت -قبل قرون عديدة من ذاك الزمان- هدفًا لطموح الإمبراطورية الرومانية اللامحدود. لكن جيش الرومان الذي كان يزحف نحو اسكتلندا تعرَّض لمذبحة فتكت بنصفه تقريبًا. نحو أربعين ألف جندي تساقطوا أمام سلالة محلية من الملاريا، لتحتفظ اسكتلندا هذه المرة باستقلالها بسبب البعوض.
لكن الرومان أيضًا عرفوا وقوف البعوض في صفهم في أحرج لحظات تاريخهم، حين قاد هانيبال الأسطوري جيشه المرعب إلى روما ذاتها، في واحدة من أعجب المغامرات العسكرية في التاريخ، التي كانت ربما لتكلل بنجاح خالد، لولا اضطراره إلى خوض رعب مستنقعات بونتين الرومانية التي كانت تحت حكم بعوضٍ استنزف جيوش هانيبال بالملاريا، ونال من هانيبال نفسه عينًا فقد الإبصار بها بسبب الحمى، وزوجةً وابنًا ذهبا مع الآلاف من ضحايا الملاريا.
يمتلئ الكتاب بقصص ما فعله البعوض بالبشر، ويقول إن البعوض هو ما صد جحافل جنكيز خان عن جنوب أوروبا، وقتل ثلث جنود الحملات الصليبية، وأخذ حياة الإسكندر الأكبر ذاته -حسب أرجح الاحتمالات- في أوج شبابه ومجده. لكن المؤلف يتجاوز التاريخ البشري ليزعم أن البعوض قد غيَّر مجرى التاريخ الطبيعي لكوكب الأرض أيضًا، حين لعب دورًا بارزًا في انقراض الديناصورات.