[success]المواطن 24[/success]
في كل مرة يتم فيها الإعلان عن تحقيق تقدم على مسار إنجاز مشروع “قناة إسطنبول” العملاق، وهو ممر مائي اصطناعي موازي لمضيق البوسفور سيربط البحر الأسود ببحر مرمرة، إلا ويتجدد الجدل السياسي والمجتمعي حول هذا المشروع الأضخم في تاريخ تركيا الحديثة؛ والذي لن يغير، في حال استكماله، ملامح المدينة وبيئتها ومشهدها العمراني فحسب، بل سيشكل علامة فارقة في تاريخ النقل البحري الدولي.
أكثر من مجرد مشروع شق قناة بأهداف استراتيجية يضمن الريادة لتركيا على الساحة الدولية، إنه “المشروع المجنون” الذي يواجه تحديات داخلية وخارجية وازنة تختبر قدرة حاملي لواءه على الصمود ومواصلة خطوات تنزيله على أرض الواقع.
عودة النقاش السياسي والمجتمعي حول “قناة إسطنبول” مجددا إلى الواجهة ترجع إلى تأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأسبوع المنصرم، على المضي قدما في تنفيذ المشروع الذي بلغ مرحلة طرح المناقصات بإقبال محلي وعالمي، ليرد رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، المنتمي لحزب الشعب الجمهوري المعارض، أكرم إمام أوغلو أنه لا يمكن، إطلاقا، إنجاز مشروع سيغير وجه المدينة ضدا عن رغبة ساكنتها، وتوظيفه لغايات انتخابية.
ومما يؤشر على تحول مشروع القناة إلى قضية سياسية ساخنة تختبر موازين القوى بين قطبي الحكومة والمعارضة بتركيا، إعلان وزير الداخلية سليمان صويلو، مؤخرا، فتح تحقيق قضائي مع أكرم إمام أوغلو ل”استغلاله المرافق العامة للبلدية للترويج لحملته المعارضة لشق القناة”.
** قناة إسطنبول.. خلاف بحجم ضخامة المشروع
تعكس حدة النقاش، الذي لا يكاد يهدأ حتى يشتد من جديد، المواصفات الضخمة للقناة التي أعلن عنها الرئيس التركي سنة 2011 عندما كان رئيسا للوزراء، ضمن مشاريع عملاقة بإسطنبول وصفها “بمشاريعه المجنونة” ستضمن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة، منها جسر السلطان سليم، ومطار إسطنبول الثالث.
ثلاثة مشاريع متكاملة للبنية التحتية لإسطنبول؛ فالأول، جسر بقيمة 3 ملايير دولار فوق مضيق البوسفور بأبراج أعلى من برج “إيفل”، تم افتتاحه رسميا سنة 2016، أما الثاني فهو مطار إسطنبول الجديد، الذي افتتح سنة 2018 ويتوخى خدمة 200 مليون مسافر سنويا عند تشغيل مدرجاته الستة، أكثر من أي مطار آخر في العالم؛ لكن المشروع الثالث يتفوق على الجسر والمطار من حيث التكلفة والحجم، وأيضا قوة الجدل المثار حول جدواه الاقتصادية والسياسية والبيئية.
اقتصاديا، ينتقد معارضو المشروع التكلفة الباهضة المقدرة لإنجازه، معتبرين أنه سيشكل عبئا ثقيلا على اقتصاد تركيا المنهك أصلا، على وقع التداعيات الاقتصادية لفيروس “كوفيد – 19” والتدهور المتواصل لليرة.
وحسب توقعات رسمية تقدر تكلفة مشروع قناة إسطنبول، التي ستقام غرب الشق الأوروبي للمدينة، ب25 مليار دولار، إذ من المخطط أن يتراوح طولها ما بين 45 و50 كلم، بعمق 25 مترا وعرض 150 مترا على السطح و120 متر في قاع القناة؛ ومن المقرر بناء موانئ بحرية ومنطقة حرة، وأرصفة طوارئ بالقناة لضمان حركة آمنة لمرور السفن، والاستجابة لحالات الطوارئ في حال وقوع حادث أو تعطل.
مجسم المشروع، القريب من مطار إسطنبول، يتضمن إقامة أزيد من 6 جسور تصل بين طرفي القناة يحمل أحدها سكة حديدية، ومدينة نموذجية ذكية على ضفتي القناة بمجمعات سكنية جديدة للحد من مشكلة الكثافة السكانية المتزايدة التي تعاني منها المدينة، تضم مساحات خضراء وقاعة مؤتمرات ومراكز تجارية كبرى، فضلا عن تشييد ثلاث مجموعات من الجزر الصناعية قبالة الساحل في بحر مرمرة باستخدام اليابسة التي سيجري حفرها لشق القناة.
ومن المتوقع أن تدر القناة أرباحا بقيمة ثمانية ملايير دولار سنويا من حركة الملاحة مقابل الرسوم التي ستدفعها السفن للمرور عبرها، كون القناة لن تخضع لاتفاقية “مونترو” التي تنص على حرية الملاحة في مضائق البحر الأسود، ومن بينها البوسفور.
كما تستهدف تركيا من خلال المشروع تخفيف كثافة عبور السفن التي سترتفع، حسب معطيات رسمية، ثلاثة أضعاف الحركة الموجودة حاليا في مضيق البوسفور، الذي يتراوح المتوسط السنوي لحركة مرور السفن به بين 40 و42 ألف سفينة، علما بأن طاقة المضيق الاستيعابية تبلغ 25 ألف سفينة سنويا فقط، إلى جانب ضمان حركة أكثر سلاسة وأمانا عبر الحد من التهديدات التي تمثلها الحوادث البحرية بهذا المضيق.
**الهاجس البيئي.. حاضر بقوة في نقاش شق القناة
ردا على الانتقادات والمخاوف التي يعبر عنها معارضو القناة بخصوص تأثيرها السلبي المتوقع على التوازن البيئي للمدينة، تشدد السلطات التركية على أنه تم الحرص على إشراك منظمات المجتمع المدني والجامعات، وكذلك المؤسسات والمنظمات المعنية لتقييم الأثر البيئي للمشروع، شملت تخصصات مختلفة من تحليل الزلازل والتخطيط الحضري والاقتصاد والتراث الثقافي إلى البيئة وإدارة المرور.
ويؤكد المسؤولون الأتراك أن مشروع القناة الجديدة يعد الحل الأنسب لتخفيف الضغط على مضيق البوسفور، من بين أكثر الممرات المائية ازدحاما في العالم، ولتقليل الأضرار البيئية التي يتسبب فيها ضغط السفن على المضيق بسبب تحول التجارة العالمية إلى الشرق، موضحين أن هذه السفن تضطر للانتظار لمدة أسبوع تقريبا لتتمكن من العبور، ما يرفع من الكلفة الأخير وأيضا تدخل فرق ضمان سلامة الملاحة البحرية، هذا فضلا عن كميات البضائع الخطيرة التي تعبر هذا المضيق والتي تتجاوز 150 مليون طن سنويا، يشكل النفط جزءا كبيرا منها، وذلك بالنظر إلى أن البحرين الأسود ومرمرة يشكلان مسارين رئيسيين في تجارة النفط العالمية.
ويدعم هؤلاء موقفهم بدراسات تؤكد التلوث الشديد الناتج عن تصريف المياه العادمة ومياه الصابورة من السفن، خاصة التي تعبر عدة بحار بخصائص مائية أو نباتية أو حيوانية مختلفة عن النظام البيئي للبوسفور، مؤكدين أن هذا الأخير يعاني، منذ التسعينيات، من انتشار نوع من قناديل البحر موطنه الأصلي سواحل أمريكا الشمالية جلبته السفن المختلفة القادمة من هذه القارة.
طرح لا يقنع معارضي المشروع، لاسيما رئيس بلدية إسطنبول الكبرى الذي وصفه ب”الكارثي”، مؤكدا أن المشروع سيضر بمخزون المياه الجوفية، علما بأن نقص المياه يمثل مشكلة استراتيجية وأمنية بالنسبة للمدينة، ونظرا لأن منطقة البناء المخطط لها هي “منطقة محمية استراتيجية” يمكن استخدام مصادرها أثناء الحروب والكوارث الطبيعية.
في تصريحات صحفية، قال إمام أوغلو إن مناقشاته مع خبراء في الشأن البيئي كشفت أن المشروع يشكل كارثة تهدد حياة 16 مليون شخص (سكان إسطنبول)، موضحا “إذا تحقق المشروع، فستفقد المدينة التي يتجاوز عمرها ثمانية قرون، مصادر المياه الجوفية والسطحية، وهذا الخطر لوحده يستدعي تعليق إنجاز المشروع”.
وحذر، استنادا إلى تقارير شركة الأعمال الهيدروليكية الحكومية وإدارة المياه والصرف الصحي بالمدينة، من أن قناة اسطنبول ستخل بالتوازن الإيكولوجي للمنطقة، مضيفا أن البحيرات الطبيعية التي تشكل مصدر المياه الرئيسي للجانب الأوروبي للمدينة “سوف يختفي”، بينما سيبقى سد سادلدير، وهو أحد الموارد المائية الرئيسية في إسطنبول، “بلا وظيفة”.
“أيضا ستضرب قناة اسطنبول “مفرطة الحداثة”، في العمق، الطابع التاريخي العريق للمدينة، وستزيد من احتمال حدوث زلازل مدمرة بالنظر إلى أن عمليات الحفر ستخل بتماسك التربة على جانبي القناة”، يقول إمام أوغلو، موضحا “إذا أخذنا تاريخ وبيانات 120 عاما، فإن أي بنية على طريق القناة تشكل خطرا كبيرا على حياة الإنسان، لأن الزلازل تمثل حقيقة ثابتة في هذه المنطقة، فهيكل التربة عرضة للانهيارات الأرضية”.
ورأى أن مثل هذا المشروع سيكون له آثار اقتصادية على ساكنة إسطنبول، إذ سيمهد الطريق نحو المزيد من المضاربات العقارية ورفع كلفة الحياة بالمدينة، لا سيما وأن الحكومة لم تقدم خططا استثمارية واضحة لتمويل المشروع.
** قناة إسطنبول.. حلم عثماني يقترب من الحقيقة
مشروع إنشاء “قناة إسطنبول” أو “قناة البوسفور” ليس بحديث عهد ولا نتاج تخطيط استراتيجي عصري بنظرة استشرافية، فقد سبق تصوره إبان فترات حكم العديد من السلاطين العثمانيين، بداية خلال القرن السادس عشر في عصر السلطان سليمان القانوني (1520-1568)، باقتراح من المهندس الشهير معمار سنان، وأعيد طرحه مرة أخرى سنة 1591 خلال عهد السلطان مراد الثالث، الذي كان متحمسا للمشروع لدرجة استئناف العمل، غير أنه وبعد تنفيذ الكثير من تفاصيله جرى إيقافه من جديد، ليتم التفكير في إنجازه مرة أخرى في فترات حكم السلاطين محمد الرابع ومصطفى الثالث ومحمود الثاني، تقول كتب التاريخ.
**قناة إسطنبول.. ورقة تركيا التفاوضية لتجاوز اتفاقية تنظيم النقل البحري الدولي
المشروع، الذي من المتوقع الإنتهاء من إنجازه بين سنتي 2025 و2026، لا يتوخى تحقيق طفرة تنموية عملاقة بالنسبة لتركيا فحسب، بل يستهدف تغيير الجغرافيا الإقليمية والدولية، متجاوزا فكرة تمكين البلاد من مسار متطور للتجارة والطاقة والاقتصاد والمواصلات والتكنولوجيا في المنطقة، إلى التحول إلى علامة فارقة في تاريخ النقل البحري الدولي.
فعين تركيا، يقول محللون، على نقل التجارة بين الصين وأوروبا من المحور الجنوبي، من موانئ عدن وبربرة وعصب بباب المندب، إلى محور الشمال والبحر الأسود حيث مضيق البوسفور وقناة إسطنبول.
ومن منظور جيو-استرتيجي، يضيف هؤلاء، ستعمد تركيا عند الانتهاء من قناة إسطنبول، على فرض شروط جديدة على عبور السفن من الممرات المائية والبدء في مراجعة أو حتى إلغاء اتفاقية “مونترو” الموقعة سنة 1936، التي تنظم مرور السفن التجارية والعسكرية عبر مضيق البوسفور وفي البحر الأسود في وقت السلم والحرب، على اعتبار أنها ستصبح متجاوزة.
وتوقعوا أنه إذا تم إلغاء اتفاقية “مونترو”، فسيتم توقيع ميثاق جديد بشروط تركيا، المدركة جيدا لحرص حلفائها، خاصة حلف شمال الأطلسي، على تضمين الاتفاقية الجديدة بنودا تحمي أهدافهم على حساب مصالح روسيا وأسطولها في البحر الأسود، وهو المعطى الذي سيضع في يد أنقرة ورقة تفاوضية قوية تعزز موقعها على المستويين الإقليمي والدولي.