المواطن 24 بقلم: الأستاذ اسليماني مولاي عبد الله
في زمن يتسارع فيه تطور الإدارة العمومية، ويتنامى فيه حجم الاستثمارات العمومية في البنيات التحتية والخدمات، أصبحت الصفقات العمومية أداة استراتيجية لتحقيق التنمية وتكريس مبادئ الشفافية والتنافسية.
ولم يكن ذلك ليتحقق لولا إرادة الدولة المغربية في تحديث المنظومة القانونية للصفقات، بما يعزز مناخ الثقة، ويوطد أسس الحكامة الجيدة، ويؤمن توازن المصالح بين الإدارة والمتعاقدين.
في هذا السياق، يبرز تمييز قانوني بالغ الأهمية لطالما شكل محورًا للنقاش العملي والقضائي، ويتعلق بالفصل بين الحقوق المرتبطة بالالتزام الأصلي في الصفقة العمومية وتلك التي تنشأ بصورة مستقلة عنه. وهو تمييز ليس فقط تقنيًا، بل له آثار قانونية حاسمة، خاصة في حالات الفسخ أو المنازعة أو التعويض
. الالتزام الأصلي هو جوهر الصفقة؛ وهو ما يلتزم به المتعاقد، كتنفيذ أشغال أو خدمات أو توريدات حسب الشروط المنصوص عليها. أما الحقوق المرتبطة به، فهي تلك التي لا يمكن تصور وجودها إلا بوجود هذا الالتزام. بمجرد فسخه أو سقوطه، تسقط معه، كالمستحقات غير المنجزة أو
التعويضات المرتبطة بإتمام العمل. أما الحقوق غير المرتبطة، فهي تلك التي تولد بفعل تصرفات أو أضرار لا علاقة لها بتنفيذ الالتزام، مثل تعويضات عن تأخير تسليم الأرض من طرف الإدارة، أو عن فسخ تعسفي أو تجاوز في استعمال السلطة.
هذا التمييز رسخته الاجتهادات القضائية الإدارية في المغرب، التي حرصت على إنصاف المتعاقدين دون المساس بسيادة الإدارة، وأقرت بأن فسخ الصفقة لا يسقط تلقائيًا الحق في التعويض عن الأضرار غير المرتبطة بالالتزام الأصلي
. ولأن الدولة المغربية جعلت من الإصلاح التعاقدي أحد أعمدة تحديث الإدارة، فقد واكبت هذا التمييز من خلال تطوير منظومة الصفقات العمومية، خاصة عبر مرسوم 20 مارس 2013، وتعزيز المراقبة المسبقة والمصاحِبة، وكذا إحداث هيئات فض النزاعات والتظلمات، مما يعكس الإرادة السياسية في مأسسة الشفافية وضمان توازن القوة التعاقدية.
إن هذا المسار الإصلاحي يعكس وعيًا عميقًا لدى الدولة المغربية بأهمية الصفقات العمومية، ليس فقط كوسيلة لتوريد أو تنفيذ مشاريع، بل كرافعة للعدالة التعاقدية والتنمية المستدامة.
ومع ازدياد الاستثمارات الكبرى والرهانات الجهوية، بات ضرورياً مواصلة تكريس هذا التمييز في الممارسة اليومية، مع العمل على تأهيل الفاعلين وتكوينهم، وتعميم الثقافة القانونية لدى الإدارة
والمتعاملين معها. وليس خافيًا أن هذا التوجه يأتي في انسجام تام مع دستور 2011، الذي نص على الحق في الولوج إلى المعلومة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وجعل من المرفق العام فضاء للفعالية والإنصاف، وهي مرتكزات تصون حقوق الإدارة دون أن تهضم حقوق المتعاقدين.
إن مقاربة التوازن بين الحقوق المرتبطة بالالتزام الأصلي وتلك المستقلة عنه ليست مجرد تقنية قانونية، بل هي جزء من رؤية وطنية شاملة قوامها دولة الحق والمؤسسات، وإدارة عصرية تنبذ التعسف وتحتكم إلى القانون، في سبيل مغرب الإنصاف والنجاعة.


