[success]المواطن 24 متابعة[/success]
لست أدري ما السبب الذي يجعل التاريخ مغيبا عن مفكرة السياسي، وهو يخوض تجربة الإصلاح، كأن تجارب الآخرين محكومة بمنطقها الخاص، وأن تجربته تحتفظ بخصوصيتها، مع أن التطلع الإصلاحي واحد، ومصير القوى الإصلاحية التي حملته لا يختلف هو الآخر؟
لندع التفسيرات التي تتعلل باختلاف سياق الصراع على الحكم عن سياق الصراع من داخل الإجماع، فهذا التباين، أحيانا، يجعل سؤال تحلل القوى الإصلاحية، غير ذي مضمون، أو بالأحرى، يجعل السؤال في هذا الموضوع لا يطرح بهم البحث عن القانون العام الذي يجري على هذه التجارب الإصلاحية؟
يؤكد التاريخ، برواياته، المختلفة، أن تحلل القوى الإصلاحية يبدأ في اللحظة التي لا يقع فيها التعامل الذكي مع الصدمات التي لم تكن الحركة الإصلاحية مهيأة لاستقبالها، فضلا عن تأطيرها نظريا وسياسيا.
لنتذكر أن الخيار الثوري، أو النقد الذاتي الذي وضع الأصبع على الأخطاء الثلاثة، جاء بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، وأن أزمة الاتحاد بدأت، عمليا، في اللحظة التي لم تستطع الآلة النظرية أن تقدم جوابا عمليا عما بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم.
احتفى الكثير بكتاب «الاختيار الثوري»، لكن بنبركة لم يقدم جوابا سياسيا، فبقدر ما كان نقده للتجربة السياسية الاتحادية قويا وصارما، بقدر ما فتح الباب أمام خيارات أخرى، أدخلت الحركة الإصلاحية في المتاهة؛ متاهة اليسار الجديد، ومتاهة الخيار العسكري، ومتاهة انكفاء خط الإصلاح الديمقراطي، بحجة عدم وجود إرادة سياسية للإصلاح.
صحيح أن عبد الرحيم بوعبيد قام بدور كبير في إصلاح عطب الآلة النظرية، وأوجد الجسر الذي يمر منه الخيار الاستراتيجي (التحرير)، بوضع لبنات الخيار الديمقراطي، وأسهم معه مثقفون وازنون في بناء الخط الفكري والسياسي، وصحيح أيضا أن هذا الخيار عمر طويلا، وحقق الكثير من ثمراته، حتى اقتنع الحكم بألا محيد عن خوض تجربة التناوب الديمقراطي، لكن التحلل بدأ في اللحظة التي عجزت فيها الآلة النظرية عن الجواب عن لحظة الانزياح عن المنهجية الديمقراطية، فرغم قوة وغزارة التحليل السياسي الوارد في محاضرة اليوسفي ببروكسيل، فإن واقع الحزب، وتدبيره القيادي، فضلا عن علائقه البينية، كانت بعيدة عن روح ومضمون ورسائل هذا الخطاب التاريخي.
يعتقد البعض أن المشاركة الحكومية استنزفت الاتحاد، وأحدثت اختراقات مهمة في بنيته القيادية، بل وربما غيرت تركيبته السوسيولوجية، بحكم الولاءات الجديدة التي أنتجتها بعض القيادات في مربع التدبير الحكومي، أو في بعض المواقع المؤسساتية، لكن، في المحصلة، اختصرت المشكلة في بعدها التنظيمي أو في الخط القيادي، فأجهز الصراع القيادي على ما تبقى من رصيد داخل الاتحاد، فلم يعد ممكنا تصور اجتماع مكوناته أو مناضليه الكبار، لتقديم جواب جماعي عما بعد الانزياح عن المنهجية الديمقراطية!
يتكرر المشهد مع العدالة والتنمية، لكن هذه المرة بوتيرة سريعة تطرح أكثر من سؤال عن هشاشة التجربة، فما إن أعفي عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة، حتى وجد الحزب نفسه في أزمة داخلية عميقة، لم يجد لها إلى اليوم حلا، مع أنه خرج من انتصار انتخابي أربك كل القواعد المؤطرة للنسق الانتخابي.
بنكيران من فرط ذكائه السياسي، انتبه إلى خطورة التحلل، فسارع إلى استثمار كل أرصدته من أجل تحصين تماسك الحزب إلى لحظة المؤتمر، وترك كلمات ووصايا، لخلفه القيادي، كلها مبادئ وقيم تدور حول التحصن من التحلل.
انشغلت قيادة هذا الحزب بعده بالتحديات اليومية، أو بالأجندات التي وجدت نفسها مضطرة إلى الانخراط فيها، دون أن يكون لها وقت لتدبير الانتقال من واحدة إلى أخرى، أو للتفكير في عناوين أخرى مستقلة، فوضعت بين ضغطين؛ ضغط حاجيات الدولة، وضغط الغاضبين في الحزب، فاستجابت للأول بل استنزفت فيه، وانشغلت في الثاني بهم الغلبة التنظيمية، بدل الحوار السياسي المفتوح على مستقبل الحزب بعد إعفاء بنكيران؟
التجارب الثلاثة واحدة، من جهة الناموس الذي يجري عليها، وما يعزز وحدتها وتشابهها، أن النسق القيادي المخترق للقوى الإصلاحية، خاصة في التجربتين الأخيرتين، بحكم أن الأولى مضت بعيدا عن خيار الخط الديمقراطي، حكمته ثلاثة خطوط؛ خط للتدبير السياسي المساير لما ترسمه نخب الحكم، وخط للتبرير الإيديولوجي الذي تنتجه القيادة أو بعض مثقفيها في مربع التدبير، وخط الانتفاع، الذي يكبر على هوامش القيادات السياسية، التي تستعين به في مغالبة القواعد الغاضبة.
المصير الذي انتهت إليه هذه التجارب، أو المفترض أن تنتهي إليه آخر تجربة، هو أن القيادة فقدت الخيار، وأن الغاضبين فقدوا أخلاق الحوار السياسي الذي يشجع على تصحيح أخطاء القيادة، في حين يستثمر المنتفعون هذا الصراع لتوسيع قاعدتهم وتحقيق التحلل الكامل للقوى الإصلاحية.