المواطن24
.. بقلم : الأستاذ الجامعي فوزي محمد
أخذت مكاني إلى جوار سائق سيارة الأجرة ،وبعد أن ذكرت له الوجهة ،أخذتني تداعيات أفكاري إلى وجهات أخرى بعيدة ، تداعيات وتأملات لم تفسدها علي ، لحسن الحظ ، موسيقى شعبية رديئة لأن صوت المذياع كان خافتا
. ولم يقطع عني تداعياتي الحرة سوى تشنج السا ئق من مضايقة سيارة أخرى ؛ غضب ولعنات ثم : لا حول ولا قوة الا بالله . حاولت صرف انفعاله إلى الكلام عن ضرورة التحلي بالصبر وأن لكل مهنة صعابها ، وأنني كلما حللت بمراكش ،أركن سيارتي واتنقل في سيارات الأجرة تجنبا لمثل هذه المشاكل. قاطعني بمقارنات بين مراكش الأمس ومراكش الصاخبة اليوم .وبمجرد أن لاحظت ذهاب الغضب عنه ؛قلت له ممازحا
: وهناك فرق آخر ! ماهو؟ أنتم المراكشيون كنتم أهل مرح ودعابة، وكنتم مضرب المثل في خفة الروح والنكثة ، فما الذي جعل الغضب والانفعال يسرعان إليكم اليوم؟ علق على مقارنتي المتسائلة بلهجة مراكشية أصيلة : يا أستاذ ؛ راه المرووووووك ! شكون با يخليك ترانكيييييل؟! واصلت شغله بالحديث هذه المرة عن حجم مراكش بين الأمس واليوم وكيف أن تخومها لم تكن تتجاوز حي الداوديات وديور المساكين واردفت
: التي كانت تسمى ” ديور نص كُم “، لأنها حي شعبي من دور نمطية ، ومن طابق واحد قصير . لم يكن الرجل مستعجلا؛ صمت لبعض الوقت ثم نظر الي وقال
: ديور نص كم ؛ صارت اليوم أربعة طوابق والعقار فيها بالملايين . وأضاف : أنا ابن ديور المساكين. أدركت من كلامه ومن نبرته أنه لم يكن راضيا على نعتي لهذا الحي بتسمية قدحية لست أنا من وضعها ، والحقيقة أن مجرد نقلها عن تداولات المجتمع نازل عن مراتب اللباقة والذوق . ولم أجد ما أشغل به تضايقه هذه المرة سوى ما تفتق عنه ذهني من سؤال عن شخص اعرفه : إذا كنت ابن ديور المساكين ،وأنت في مثل سني ،فلا بد انك تعرف عزيز وهو صديق قديم لي .أسمر البشرة ، طويل القامة ،هاجر إلى ألمانيا ،وقيل لي لاحقا ؛ إنه تزوج ألمانية وأنجبا أطفالا. عزيز ؟! عزيز ؟! عزيز ؟! هل تذكر كنيته ؟ لا أذكرها، فقدمضى على دراستي في مراكش ما يربو على أربعين سنة . لم يستعجل الرجل الكلام ، ظل متريثا لبعض الوقت ثم استدرك
: لعله آيت يحيى!!؟؟ نعم ، بالضبط، هو ؛ آيت يحيى . تطالق هو والألمانية، ولم يتزوج بعد ذلك ، وصار مابين زياراته للمغرب متباعدا بعد موت والديه، ولكنه بخير . كانت عينا الرجل تترددان بين التركيز على الطريق ورمقي بنظرات متفحصة .
واش ما تكونش انت هو فوزي ؟؟ هو انا . ماآسمك الكريم ؟ أنا عبد اللطيف جار عزيز ، هل تذكر أيام كنا نحن أبناء الحي ،نلعب الكرة معكم انتم الطلبة في ملعب الداوديات؟ ركبت فرصة أخرى لجبر الكسر الذي نجم عن حكاية ” نص كُم ” ولكن هذه المرة بضمادات لبقة
: نعم ، نعم ؛ أذكر جيدا ؛ كنت انت لاعبا عنيدا، وكنتم فريقا قويا ( كنتو كوايرية)،ولطالما انتصرتم علينا. بدى وكأن الرجل كان منتشيا بهذا الإطراء، ولطيبته فقد كان كذلك مسرورا باللقاء العجيب. سألته كيف استطاع التعرف علي ؟ فأجابني بأنه جمع من المؤشرات التي في سياق الحديث ما قاده إلى ذلك ،ولكنه قال ذلك ببلاغة المراكشيين الجميلة : ” لا قيت الخيوط من هنا ومن هنا و عرفتك : ها طالب قديم من الجديدة. ها عزيز . ” وبلباقة فاتتني انا في بداية اللقاء
” والسيفة الحمد لله ما تبدلاتش بزاف “. انصرفت بعد حديث ودي وجيز. وقد تزاحمت في عقلي الأفكار من كل صنف : مقولة ” العالم قرية صغيرة ” ليست دقيقة لأنه في أغلب الأحيان لا يكون كذلك …والذي تلزمه الصفة هو أن دماغ الإنسان بذاكرته بسعة كون .وأن الله أودع داخل جمجمة الإنسان على صغرها، آلة جبارة عبارة عن حاسوب عملاق . ثم قلت في نفسي وانا اراجع تفاصيل الحديث مع الرجل : رغم ان البلاغة رائعة ،فإن لها سوءاتها . وقد يجمع الله الشتيتين بعدما // يظنان كل الظن أن لا تلاقيا.