المحجوب اوبن حساين
خاضت قبائل زيان المغربية بقيادة محمد بن حمو الزياني، معركة حامية الوطيس ضدّ القوات الفرنسية المستعمِرة التوسُّعية، وعُرِفت تلك المعركة التي دارت رحاها يوم الجمعة 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، باسم معركة “الهري” نسبةً إلى أرض الهري جنوب مدينة خنيفرة بمنطقة الأطلس المتوسّط المغربية.
ويعتبر مؤرّخون تلك المعركة أنّها أول هزيمة تتكبّدها فرنسا في أيّ مِن مستعمراتها بالقارة الإفريقية، كما يصف الجنرال غيوم وهو أحد الضباط الفرنسيين المشاركين في تلك الحملة الفرنسية الغاشمة على الأطلس المتوسّط، هزيمة القوات الفرنسية في معركة الهري بأنّها “هزيمة مفجعة لم تُمنَ فرنسا في شمال إفريقيا بمثلها قط”.
أطماع فرنسا التوسّعيّة كانت فرنسا في العقد الثاني من القرن العشرين تسعى على نحوٍ متزايد لاحتلال مناطق مهمّة واستراتيجية في المغرب، وتزامناً مع بدء الحرب العظمى في يوليو/تموز 1914 والتي عُرِفت فيما بعد بالحرب العالمية الأولى، كانت فرنسا تستعدّ لمحاربة دول المحور التي كانت تتزعمها الإمبراطورية الألمانية بقيادة بسمارك.
ولطالما كان المستعمر الفرنسي يضع احتلال الأطلس المتوسّط صوب عينيه، لكونه ممرّاً استراتيجياً يفصل الشمال عن الجنوب، والغرب عن الشرق، ويهدّد كذلك وجود فرنسا بالجزائر ومدينة وجدة والمغرب الشرقي الجنوبي، كما يهدّد كلّ المناطق المتاخمة للحدود الجزائرية.
ودفع هذا البُعد الاستراتيجي باريس إلى التحرّك في حملة عسكرية لاحتلال الأطلس المتوسّط لفتح الطرق والممرّات البرية لتسهيل التواصل بين فاس ومراكش وتسخير خيرات الجبال لصالحها، كما سعى المحتلّ الفرنسي من خلال تلك الحملة لإضعاف شوكة المقاومة المغربية، حيث كان أغلب مقاومي الاحتلال يحتمون بجبال الأطلس المتوسّط، ولا سيّما المقاومين الزيانيين.
ولا تقتصر أهمية الأطلس المتوسّط، التي جعلته محطّ أنظار الأطماع الفرنسية حينئذ، عند الناحية الاستراتيجية، بل يحمل كذلك أهمية جغرافية واقتصادية لكونه منبعاً لكثير من الأنهار والمصبّات بفضل كثرة الثلوج المتساقطة عليه، والتي تتحوّل إلى مجارٍ وينابيع وأنهار مثل نهر أم الربيع ونهر ملوية ووادي العبيد، والتي تُعتبر عصب الزراعة، ويمكن إنشاء السدود على مجاريها لتوليد الطاقة الكهربائية.
بسالة الزيانيين ودهاؤهم في 12 يونيو/حزيران 1914 دخل الفرنسيون بقيادة الكولونيل هنريس مدينة خنيفرة لأوّل مرّة، بجيش تجاوز تعداده ثلاثين ألف محارب، وبعد مواجهات عنيفة تمكّنت القوات الاستعمارية من احتلال مدينة خنيفرة، غير أنّ الانتصار الذي حقّقه الفرنسيون لم يمكّنهم من إخضاع محمد بن حمو الزياني المعروف أيضاً بـ”موحا أوحمُو الزياني”، والذي قرّر تغيير استراتيجية مقاومته.
وانطلق الزياني رفقة رجال المقاومة إلى الاعتصام بالجبال المحيطة بخنيفرة وتحديداً بأرض “الهري”، متعمّدين إخلاء المدينة ليتوهّم الفرنسيون أنّهم ظفروا بالمعركة، واحتموا بالجبال المجاورة للمدينة.
وسرعان ما بدأ الزيانيون شنّ هجماتهم المتتالية على القوات الفرنسية بمدينة خنيفرة، ودخلوا مع المحتل في مناوشات واصطدامات كثيرة انتهت بخسائر جسيمة في صفوف الجيش الفرنسي. وما أن بلغ مسامع الفرنسيين خبر وصول الزياني إلى قرية “الهري” حتّى سارعت القيادة الاستعمارية الفرنسية إلى تدبير خطة هجوم مباغت على المجاهدين، غير آبهة بالأهالي الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء.
وقرّر الكولونيل لافيردي تنفيذ هجوم على معسكر الزياني في ليلة 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، وأعدّ قائد الحملة العسكرية الفرنسية الوسائل الحربية المتطوّرة كافة، وحشَدَ عدداً كبيراً من الجنود والعدة والعتاد.
وتحوّلت منطقة الهري إلى جحيم من النيران، وسُمِعَت أصوات الانفجارات في كلّ المناطق المجاورة، وظنَّ لافيردي أنّ النصر صار حليفه، وأنّه وضع حداً لمقاومة الزياني، غير أنّه أُصيبَ بخيبة أمل حينما فوجئ بردّ فعل عنيف من المقاومين.
واستطاع الزيانيون المقاومة بفضل انضمام القبائل المجاورة إلى صفوفهم، والتي حضرت من كلّ حدب وصوب بسرعة خاطفة خاصةً قبائل: أشقرين، وآيت نوح وآيت بويشي وآيت شارط وآيت بومزوغ وآيت خويا وآيت إحند، وغيرها من القبائل التي حاصرت الجنود الفرنسيين من كلّ النواحي وطوّقتهم على نحو مباغت ومفاجئ، وواجهتهم بكلّ الأسلحة الموجودة لديهم من بنادق وفؤوس وخناجر، إلى أن ولّى الفرنسيون الدُبر مستسلمين لهزيمتهم أمام بسالة المقاومة المغربية.