[success]المواطن 24 / د.سليم[/success]
(كان مقال جيمس بولدوين “مذكرات موجزة” في عام 1955 ردًا ساخرًا على استمارة طلب منه الناشر ملئها من أجل السجلات، تطلب معلومات عادية مثل تاريخ ميلاده ومكان إقامته. قلب بولدوين الاستمارة وبدأ يكتب على وجهها الآخر، مازجًا تفاصيل عادية -مثل تجربته السابقة واهتماماته وما أثر فيه- بنبرة جدية مع فلسفته الشخصية).
ولدتُ في هارلم قبل واحد وثلاثين عامًا، وبدأت ابتكار حبكات الروايات مذ تعلمت القراءة تقريبًا. قصة طفولتي حكايةٌ مأساوية مألوفة، وبإمكاننا أن نصرف النظر عنها ونكتفي بالتنويه باختصار بأنني لن أرغب بعيشها مجددًا. كانت لدى أمي في تلك الأيام عادة مغيظة وغريبة هي إنجاب الأطفال؛ كلما ولد أحدهم، كنت أرعاه بيد وأحمل كتابًا بالأخرى. عانى الأطفال على الأرجح، إلا أنهم منذ ذلك الحين كانوا لطفاء بما يكفي لإنكار ذلك. بهذه الطريقة قرأت “كوخ العم توم” و”حكاية مدينتين” مرارًا وتكرارًا. بهذه الطريقة، في الواقع، قرأت كل ما وقع تحت يدي… باستثناء الكتاب المقدس، ربما لأنه الكتاب الوحيد الذي كنت ألقى التشجيع على قراءته. يجب أن أعترف أيضًا بأنني كتبت كثيرًا، وبأن أول انتصار مهني لي، أو بالأحرى أول مجهود بذلته من أجل النشر، كان في سن الثانية عشرة تقريبًا، عندما حازت قصة قصيرة كتبتُها عن الثورة الإسبانية على جائزةٍ ما في إحدى الصحف الكنسية التي لم تدُم طويلًا. أذكر أن القصة تعرضت للرقابة والحذف على يد رئيسة التحرير -لكنني لا أذكر السبب- فغضبتُ غضبًا شديدًا.
ألفتُ مسرحياتٍ أيضًا، وأغانيَ، تلقيت من أجل إحداها رسالة تهنئة من المحافظ لا غوارديا، وكتبت شعرًا، كلما قل الحديث عنه كان أفضل. كانت أمي مسرورة بكل هذه الأحداث، بخلاف والدي، الذي أراد لي أن أكون واعظًا. في الرابعة عشرة من عمري أصبحت واعظًا، ثم توقفت عن ذلك عندما بلغت السابعة عشرة، ورحلت عن المنزل بعد ذلك بفترة قصيرة. يعلم الله كم من الوقت عانيت في عالم المال والأعمال -أظنهم سيقولون إنهم عانوا معي- وعندما بلغت قرابة الحادية والعشرين من عمري، كنت قد أنجزت من روايتي ما يكفي للحصول على زمالة ساكستون. عندما بلغت الثانية والعشرين انتهت مدة الزمالة، وتبين أن الرواية غير قابلة للبيع، فبدأت أعمل نادلًا في مطعم في القرية، وأكتب مراجعات الكُتب -التي اتضح في ما بعد أن معظمها يخص قضية السود، وهو موضوع جعلني لونُ بشرتي خبيرًا به تلقائيًّا. ألفت كتابًا آخر بالتعاون مع المصور ثيودور بيلاتوسكي، حول كنائس الواجهات[1] في هارلم، ولقي هذا الكتاب مصير كتابي الأول: زمالة، لكن من دون مبيعات (كانت زمالة روزنوُلد). عندما بلغت الرابعة والعشرين قررت التوقف عن مراجعة الكُتب التي تتناول قضية السود -التي كانت في ذلك الوقت بالكاد أقل فظاعة على الورق مما هي عليه في الواقع- وحزمت حقائبي وذهبت إلى فرنسا حيث أنهيت -والله أعلم كيف- رواية “أعلنوا مولده فوق الجبل”.
أظن أن أي كاتب يشعر بأن العالم الذي وُلد فيه ما هو إلا مؤامرة ضد تنمية موهبته، ومن المؤكد أن لهذا الموقف الكثير مما يؤيده. من ناحية أخرى، فإن نظر العالم إلى موهبة الفنان بتلك اللا مبالاة الرهيبة، هو السبب الذي يُلزمه بجعل موهبته ذات شأن. لذلك حين ينظر أي كاتبٍ إلى الماضي، ولو كان مدة قصيرة جدًّا من الزمن كالتي أضطرُ إلى تقييمها هنا، يجد أن من غير الممكن فصل الأشياء التي آذته عن الأشياء التي ساعدته. أي كان من الممكن مساعدته بطريقة ما فقط لأنه أوذي بطريقة ما؛ ومساعدته هي ببساطة أن يتاح له الانتقال من معضلة إلى التالية… يميل المرء إلى القول إنه ينتقل من كارثة إلى أخرى.
عندما يبدأ واحدنا في البحث عن العوامل المؤثرة به يجدها بالعشرات. لم أفكر كثيرًا في العوامل التي أثرت بي، ليس بقدرٍ كافٍ على أي حال. أظن أن إنجيل الملك جيمس، وخطاب كنيسة الواجهة -وهو شيء ساخر وعنيف وموضع استخفاف على الدوام في حديث السود- وشيءٌ من حب ديكنز للأسلوب المنمق، لهم علاقة بما أنا عليه اليوم؛ لكنني لست واثقًا بذلك تمامًا. وبالمثل، فقد ساعدني عددٌ لا يحصى من الناس بطرائق كثيرة. في النهاية، أظن أن الشيء الأصعب (والأكثر إثمارًا) في حياتي أني ولدتُ أسود، وأجبِرتُ بالتالي على عقد هدنة مع هذا الواقع (بالمناسبة، الهدنة هي أفضل ما يمكن للمرء أن يتمناه).
إحدى الصعوبات التي تواجه أي كاتب أسود (لا أدعي أن ذلك وضع استثنائي، إذ إنني لا أقصد أنه يعاني أكثر من الآخرين) هو أن قضية السود يُكتب عنها كثيرًا، حيث تنوء رفوف الكُتب تحت وطأة المعلومات، ولذلك يعتبر الجميع نفسه على دراية بها. علاوة على ذلك، تعمل هذه المعلومات عادةً (بشكل عام وشائع) على تعزيز المواقف التقليدية، التي تضم اثنين فقط: مع، أو ضد. وأنا شخصيًّا أجد صعوبة في تحديد الموقف الذي سبب لي قدرًا أكبر من الألم. إنني أتحدث باعتباري كاتبًا، أما من وجهة نظر اجتماعية فأنا أدرك تمامًا أن التغييرَ من سوء النية إلى حسن النية، أيًّا كان الدافع إليه، ومهما كان ناقصًا، وأيًّا كانت طريقة التعبير عنه، أفضلُ من عدم التغيير على الإطلاق.
لكن جزءًا من عمل الكاتب -برأيي- أن يسبر المواقف، ويتجاوز المظاهر السطحية، وصولًا إلى الأساس. من وجهة النظر هذه، تكاد قضية السود تكون عصية، فلم يُكتب عنها الكثير فحسب، بل كُتب عنها بطريقة سيئة للغاية أيضًا. من الممكن القول إن الثمن الذي يدفعه الشخص الأسود حين يصبح متكلمًا فصيحًا هو أنه يجد نفسه، في آخر المطاف، من دون شيء للتعبير عنه. (“لقد علمتَني الكلام” قال كَليبان لبروسبارو، “ولذلك أود الآن أن أصب عليك اللعنة”[2]). إن النشاط الاجتماعي الهائل الذي تُولده هذه القضية يفرض على البيض والسود على حد سواء ضرورة التطلع قُدمًا والعمل من أجل غدٍ أفضل. هذا شيء جيد، ويبقي الوضع مبلبلًا. كل هذا، بالفعل، هو ما جعل تقدم السود ممكنًا. مع ذلك، فالقضايا الاجتماعية ليست أولى هموم الكاتب عمومًا، سواء أكان ذلك واجبًا أم لا. من الضروري للغاية أن يترك بينه وبين هذه القضايا مسافة تسمح، على الأقل، بالوضوح، لأنه يجب أن يستطيع أولاً إلقاء نظرة طويلة إلى الوراء، قبل أن يتمكن من التطلع إلى الأمام بأي طريقة ذات معنى. في سياق قضية السود، لا يملك البيض ولا السود، لأسباب وجيهة خاصة بهم، أدنى رغبة في النظر إلى الماضي، لكنني أعتقد أن الماضي هو ما يجعل الحاضر مفهومًا، وعلاوة على ذلك، أعتقد أن الماضي سيظل مروعًا ما دمنا نرفض تقييمه بأمانة.
أعلم، على أي حال، أن اللحظة الفارقة في تكويني حلت عندما أدركتُ أنني كنت، نوعًا ما، ابنًا غير شرعي للغرب، عندما تتبعت خط ماضيَّ لم أجد نفسي في أوروبا، بل في إفريقيا، وهذا يعني أنني بطريقة دقيقة، وبطريقة عميقة حقًّا، كان لدي موقف خاص من شيكسپير وباخ ورمبرانت، وحجارة پاريس وكاتدرائية شارتر ومبنى إمپاير ستيت. لم تكن هذه إبداعاتي حقًّا، ولم تحتو على تاريخي. يمكنني أن أبحث فيها إلى الأبد، عبثًا، عن أي انعكاس لنفسي. لقد كنت دخيلًا، لم يكن ذلك تراثي. في الوقت ذاته، لم يكن لدي تراث آخر يمكن أن آمل في تبنيه، فمن المؤكد أنني لم أكن أنتمي إلى الغابة أو القبيلة. كان علي أن أستولي على هذه القرون البيضاء من الزمن، أن أستملكها، وأن أقبل بموقفي الخاص، ومكاني الخاص في هذا النسيج، وإلا فلن يكون لي مكان في أي نسيج. كان الأصعب هو اضطراري للاعتراف بشيء لطالما أخفيته عن نفسي، وكان على الأمريكي الأسود أن يخفيه عن نفسه ثمنًا لتقدمه في الحياة الاجتماعية؛ وهو أنني كنت أكره البيض وأخافهم. هذا لا يعني أنني أحببت السود، بل على العكس من ذلك، فقد احتقرتهم، ربما لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثل رمبرانت. بالنتيجة، لقد كرهت العالم وخفته. وهذا يعني أنني لم أمنح العالمَ قوة قاتلة ضدي فحسب، ولكن أيضًا في طي مثل هذا الدوامة المدمرة لم يكن لي أن أتمنى أن أكتب.
يكتب المرء مستمدًّا من شيء واحد فقط: تجربته. وكل شيء يعتمد على مدى مثابرة المرء على الاستفادة القصوى من هذه التجربة حتى آخر قطرة، حلوة أو مرة، يمكن أن تمنحها. هذا هو الشاغل الحقيقي الوحيد للفنان، أن يعيد تكوين فوضى هذه الحياة مشكلًا ذلك النظام الذي يسمى الفن. إذن فقد كانت الصعوبة بالنسبة إلي، في كوني كاتبًا أسود، هي كوني ممنوعًا في الواقع من دراسة تجربتي الخاصة من كثب بسبب المطالب الهائلة والمخاطر الحقيقية المرتبطة بوضعي الاجتماعي.
لا أعتقد أن المعضلة المذكورة أعلاه غير مألوفة. لكن باعتبار أن الكُتاب يعملون في مجال اللغة الصريح على نحو كارثي، أعتقد أن تلك المعضلة تشرح إلى حد ما، سبب كون النثر الذي كتبه السود باهتًا وشديد القسوة عمومًا، رغم وفرة المصادر من لهجة وحياة السود، وعلى الرغم من وجود موسيقى السود مثالًا. لم أكتب بهذا القدر عن كوني أسود لأنني أتوقع أن يكون هذا موضوعي الوحيد، بل لمجرد أن ذلك كان بوابة ينبغي لي أن أفتحها قبل أن أرغب في الكتابة عن أي شيء آخر. لا أعتقد أن من الممكن مناقشة قضية السود في أميركا على نحو منطقي من دون أخذ سياقها في الحسبان. وسياقها هو التاريخ، والتقاليد والعادات، والمواقف الأخلاقية وشواغل البلاد. باختصار، هو النسيج الاجتماعي العام. أما المظاهر فعكس ذلك، لا أحد في أميركا يفلت من آثارها والجميع في أميركا يتحملون بعض مسؤوليتها. ما يُرسخ اعتقادي بذلك هو الميل الطاغي للتحدث عن هذه القضية كما لو كانت شيئًا مستقلًّا. لكن في أعمال فوكنر، وفي المناخ العام لأعمال روبرت بن وارين ومقاطع معينة منها، والأهم من ذلك، في ظهور رالف إليسون، يرى المرء بداياتٍ -على الأقل- لبحث أشد عمقًا وذكاءً فعلًا. إن السيد إليسون، بالمناسبة، هو أول روائي أسود قرأت أعماله، قد وظف في اللغة، وبشكل عبقري، بعض الغموض والمفارقات الموجودة في حياة السود.
أما بخصوص اهتماماتي، فلا أعرف إذا كان لدي أي اهتمامات، إلا إذا كانت الرغبة المرَضية في امتلاك كاميرا ذات عدسة بقطر 16 ملمترًا قد تندرج تحت ذلك التصنيف. عدا ذلك، فأنا أحب أن آكل وأشرب -لدي قناعة سوداوية بأنني نادرًا ما تناولت ما يكفي من الطعام (هذا لأن من المستحيل أن تأكل ما يكفي إذا كنت قلقًا بشأن توفر الوجبة التالية)- وأحب أن أجادل الأشخاص الذين لا يختلفون معي كثيرًا، وأحب الضحك. لا أحب بوهيميا، ولا البوهيميين، لا أحب الذين يتخذون المتعة هدفًا أساسيًّا، ولا أحب الجديين بخصوص أي شيء. لا أحب الذين يحبونني لأنني أسود، ولا أحب الذين يجدون في ذلك الشيء نفسه مبررًا للازدراء. أحب أميركا أكثر من أي بلد آخر في العالم، ولهذا السبب بالذات أتمسك بحق انتقادها على الدوام. أعتقد أن كل النظريات مشتبه بها، وأن أفضل المبادئ قد يتعين تعديله، أو حتى سحقه، بسبب متطلبات الحياة، وأن على المرء، لهذا السبب، أن يجد المركز الأخلاقي الخاص به، ويمضي في العالم على أمل أن يُرشده هذا المركز إلى الصواب. أدرك أن لدي العديد من المسؤوليات، ولكن ليس فيها ما هو أكبر من هذا: أن أستمر، كما يقول همنغواي، وأنجز عملي.