المواطن24
يحكى أن الإمام الرازي كان ماشياً في نيسابور وقد تحلق حوله أتباعه وطلابه، فشدّ أنظار الناس إليه ومن بينهم امرأة عجوز لم تعرفه. فسألت من هذا؟ فقالوا لها: هذا الإمام الفخر الرازي.
سألت ثانية: ومن هو الرازي.. فأجابوها: هو الذي وضع ألف دليل على وجود الله. فقالت متعجبة: وي! وهل يحتاج الله للأدلة على وجوده؟ لو لم يكن في قلب هذا الرازي ألف شك لما احتاج لألف دليل.
تبسم الإمام تبسُّم العجب من كلامها ودعا بدعوته المشهورة: “اللهم ارزقنا إيمان عجائز نيسابور”!.
بالعموم… فإني قد وطنت نفسي وعقلي على أن أُقدّر الإيمان البسيط الذي يؤمن به أغلب الناس، والذي يثبت في أغلب الأحيان وضوح بصيرته واستقامة نهجه، خاصة وأنه إيمان عرفاني بحت، يقوم على حدس اعتقادي جازم بالله ووجوده وصفاته، يتبعه بطبيعة الحال اعتقاد راسخ بالأديان والكتب السماوية والأنبياء.. إلخ من أركان الإيمان الثابتة.
من جهة أخرى، لا يخفى على أي مطّلع حجم الأدبيات من الكتب والمقالات والرسائل والحوارات التي نراها منتشرة في الأديان السماوية الثلاثة، وموضوعها الرئيس هو الله والإيمان به، وتنطوي هذه الأدبيات تحت مجال معرفي إيماني مستقل عرف بعدة أسماء في الفكر الديني، منها اللاهوت أو أصول الدين أو علم الكلام أو علم العقيدة أو الإلهيات أو الميتافيزيقا.. إلخ أيضاً. وثمة إجماع شبه متفق عليه بين الدارسين أن هذه العلوم نشأت في الغالب نتيجة اصطدام العقائد فيما بينها، ومضي كل فريق لإثبات صحة معتقده وبالتالي نقض معتقد الآخر المخالف له، أو يكفي أن يكون مجرد مختلف عنه.
إذن ثمة مجالان مختلفان عبر تاريخ الإيمان لتلقي الإيمان والتعبير عنه، أحدهما لعامة الناس أو الجمهور (والمقصود بالعامة هنا هي الكثرة وليس للتقليل من شأنهم) والآخر لفئة قليلة ممن نتفق على تسميتهم بالخاصة أو بالمتكلمين أو الفلاسفة أو المفكرين أو المنظرين، تواجدت هاتان الفئتان بجانب بعضهما البعض، وكانتا تلتقيان صدفة كما التقى الإمام الرازي بالعجوز النيسابورية، حين أبدت استنكارها لفكره وأبدى إعجابه بإيمانها.
لا مشكلة إذن بين الفئتين، وهذا ما حدث لقرون طويلة مضت. أما اليوم فالمشكلة تبدو أعقد مما هي في السابق، وما كانت لتصير أكثر تعقيداً لولا حدوث فرق جوهري في طبيعة الإيمان لدى العامة واختلاطه غير الصحيح بطبيعة الإيمان الذي تشرحه وتدافع عنه الخاصة. فلنبدأ تناول المشكلة من آخرها.
خلط وتضليل
لا بد وأنك عزيزي القارئ قد صادفت في جميع وسائل التواصل الاجتماعي التي تتابعها رسائل أو مقالات أو مقاطع فيديو تستعرض ظواهر علمية متعددة، كمسائل الفلك أو طبقات الأرض أو علوم البحار أو تكوّن الأجنة أو علوم الأمراض أو العلوم النفسية والجسدية، والقائمة تطول.. وتربط نتائج هذه القضايا أو أسبابها بما قاله الله سبحانه أو تحدثت به الأديان أو جاء على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وحيث أني ساناقش هذا الأمر في بيئة إسلامية، فإني سأحصره هنا بالدين الإسلامي والقرآن الكريم فقط، مع العلم أن ذات الأمر يحدث في الأديان جميعها ولدى المؤمنين بالله أياً كانت شريعتهم أو معتقدهم.
غاية هذه الفيديوهات والمقالات واحدة ومشتركة دائماً، وهي إثبات أن الدين حق، وأن ما نعتقده ونؤمن به صحيح، والدليل في ذلك دائماً بحسب ما يتبناه ناشرو المواد أن حقائق العلوم هذه تتفق مع حقائق الإيمان تلك، وحيث أن العلم حق فالدين حق، وكأن هذا يطمئن متداولي هذه الفيديوهات والمقالات إلى أن الله حق وكلام الله حق وما جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام حق لا لبس فيه ولا تشكيك، فقط لأن العلوم تؤكد ذلك. يا للدهشة!
المدهش حقاً هو هذا القصور في الوعي وهذه السذاجة في المحاكمة وهذا الخلط بين ما هو مطلق وما هو نسبي، بين ما هو إيماني ثابت ومنزه، وبين ما هو تجريبي متغير ومادي، بين ما هو إلهي مقدس وما هو بشري خاضع للرأي واختلافه وخطئه وغموضه وعجزه! وحول هذه النقطة سيكون للحديث بقية..