نجيد كباسي
في رسائل مرفقة بمذكرة اقتراحية توصل بها مؤخرا السيد رئيس الحكومة والسيد وزير الصحة والحماية الاجتماعية، نبهت الجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة إلى أنه منذ أن أصدر جلالة الملك أوامره السامية بتنزيل ورش الحماية الاجتماعية الشاملة وإعطاء الأولوية لتعميم التأمين الإجباري عن المرض وما يقتضيه من إصلاح جذري للمنظومة الصحية، أصبح كل المتتبعين للشأن الصحي متخوفين من أن تكون بعض التصريحات الصادرة من حين لآخر عن جهات مسؤولة مجرد إشارات تنبئ بمستقبل قريب قد يتقلص فيه دور القطاع العمومي للصحة إلى حده الأدنى مقابل تقوية وتضخيم أدوار متدخلين آخرين، مما يثير تساؤلات حقيقية حول منظور الحكومة لمستقبل القطاع الصحي العمومي برمته.
كما أن بعض تلك التصريحات والبلاغات قد يفهم منها أن هناك نية لدى السلطات المختصة لتمرير إجراءات جزئية من شأنها الاستجابة الفورية لمطالب فئة معينة من مهنيي الصحة دون باقي الفئات بغرض تحييدها، مما يكرس منطق الفئوية التمييزية ويوسع الهوة بين مهنيي الصحة الممارسين أحيانا لنفس المهام والوظائف.
كل هذه التخوفات تعمق الإحساس لدى المتتبعين بخطر فرض الأمر الواقع بسلبياته، وإخطاء الأهداف الحقيقية للإصلاح، وتفويت الموعد مع التاريخ مرة أخرى.
هذا، وقد أكدت الجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة، بأن المنظومة الصحية الوطنية لن تستقيم لها قائمة حسب تعبيرها دون تعاضد ثلاث مجموعات من المتدخلين يكملون بعضهم بعضا ويفترض أنهم يضعون المواطن في صلب اهتماماتهم:
• قطاع عمومي مرن، ذو حكامة جيدة وتدبير احترافي وقيادة ذات كفاءة ومصداقية، مدعوم بترسانة قانونية تقوي أدواره الضبطية والرقابية، محكم التنظيم ومنفتح على محيطه، يمارس حصريا كل المهام السيادية ذات الصلة ويضمن للمواطن على كل التراب الوطني كامل الخدمات الصحية التي يحتاجها، ويوظف كل الآليات المسهلة للشراكة والتعاون والتنسيق مع باقي الفاعلين.
• قطاع صحي خصوصي ربحي تحكمه الأخلاقيات المهنية وقواعد المواطنة والمنافسة الشريفة، ذو وضعية جبائية سليمة، يساهم في سد الخصاص وفي تحريك العجلة الاقتصادية وفي خلق الثروة، ويخضع للضوابط التي تفرضها السلطة الحكومية المختصة ولرقابتها، ويمتنع عن أي ممارسة تستنزف جيوب المرتفقين أو تشوش على القطاع العمومي أو تستغل موارده.
• منظومة داعمة يؤثثها القطاع الخاص غير الربحي ومكونات المجتمع المدني ذات النفع العام المهتمة بالقطاع الصحي والمستفيدة أحيانا من دعم السلطات العمومية أو من إعفاءات ضريبية أو من تمويل الصناديق السيادية، شريطة أن تخضع للرقابة وللضوابط التي تفرضها السلطة الحكومية المختصة، وأن تدعم القطاع العمومي الصرف وتساهم عند الاقتضاء في سد الخصاص بناء على اتفاقيات للشراكة والتعاون وألا تدخل في منافسة غير مشروعة مع القطاع الخصوصي الربحي.
وأضافت الجمعية في مذكرتها الاقتراحية الى أنها ما فتئت تثير الانتباه إلى ضرورة إحقاق المساواة والإنصاف في التعامل والتجاوب مع مطالب الفئات المهنية للصحة بمجملها، وإلى أن مبدأ العدالة الأجرية والعدالة في التعويض عن الأخطار المهنية والوظيفية، هو مبدأ أساسي تتمسك به كل الفئات المهنية، وأكدت بأن الظرفية الحالية يفترض أن تكون محطة لرص الصفوف وللإقرار بأن الفوارق في منظومة الأجور وفي التعويض عن المخاطر المشتركة والمخاطر ذات الصلة بطبيعة المهنة لم تعد مقبولة.
فمعيار الرصيد الأكاديمي وطبيعة المهام والوظائف والمسؤوليات يفرض نفسه، ومن الطبيعي أن يعطي الحق في أجر مناسب ومتساوي لفائدة كل من يستوفي نفس المعايير إعمالا لمبدأ «لنفس الرصيد الأكاديمي نفس الدرجة ولنفس المهام نفس الأجر”، مثلما يفترض أن يعوض مهنيو الصحة بنفس القدر ودون تمييز عن المخاطر المهنية العامة أو ذات الصلة بمهامهم الوظيفية إعمالا لمبدأ “لنفس الخطر نفس التعويض”.
فالمخاطر لا تنحصر فقط في التعرض للإصابة بالمرض أو العدوى وإنما تشمل أنواعا أخرى لا تقل خطورة وحدة وتمس المهن التدبيرية للموارد الاستراتيجية وما يحفها من إغراءات وإكراهات يومية والتي غالبا ما تكون عواقبها وخيمة على المعنيين وعلى المنظومة ككل في حال التعرض لها والسقوط في براثنها.
هذا وقد نبهت مذكرة الجمعية إلى أن المتصرفات والمتصرفين العاملين بقطاع الصحة يشكلون الفئة الأكثر تضررا داخل المنظومة الصحية، وأنهم فتئوا يثيرون الانتباه إلى اللامبالاة التي تقابل بها مطالبهم، وإلى التبخيس الذي يطالهم من خلال إقحامهم عنوة ضمن مسمى “الفئات الأخرى أو الإداريين” وإلى الحيف الذي يعانون منه من الناحية الأجرية ومن ناحية التعويض على المخاطر المهنية العامة والخاصة، مقارنة مع باقي الفئات التي قد تمارس مهام مماثلة أو أقل حساسية ومشقة.
ويكفي لأي مهتم أن يقارن شبكات الأرقام الاستدلالية وقيمة الأجرة الصافية والتعويضات ليلمس حجم الغبن الذي يعاني منه متصرفات ومتصرفو قطاع الصحة.
ودعت الجمعية الوزارة الوصية على القطاع الصحي إلى انتهاز الظرفية الحالية ليس من أجل إحقاق مكتسبات جزئية لفئة معينة فقط، وإنما لرفع الحيف عن الجميع بعيدا عن أي ضغط خارجي أو اعتبارات فئوية أو عددية أو موازناتية، وأن تستبق التبعات السلبية لما تم الجهر به من تحقيق فوري لمطلب أجري لفئة معينة، علما بأن عددا من المنتسبين لتلك الفئة قد لا يمارسون في الواقع مهام علاجية أو قد لا يشتغلون أساسا بالقطاع الصحي، وأن تستدرك الأمر بالمعالجة الفورية لمطالب باقي الفئات والتي لا تقل عدالة أو استعجالا عن غيرها وفق مقاربة شمولية لا تدع أحدا على الهامش، باعتبار أن الإرادة والموارد إن توفرتا، يفترض أن تتوفرا لفائدة الجميع.