المواطن24
بقلم الأستاذ اسليماني مولاي عبد الله – خبير في القانون والاقتصاد، مستشار معتمد في المقاولات، محكّم دولي، ورئيس المركز الدولي للدراسات والبحث العلمي المتعدد التخصصات المغرب.
في عالم يتسم بالتقلبات الجيوسياسية، وتغيرات الأسواق، وتطور الذكاء الاصطناعي، لم يعد من المقبول أن تبقى قرارات المؤسسات مبنية على الحدس أو على تجارب سابقة غير محدثة. لقد أصبح النموذج المالي أحد أهم أدوات القيادة الحديثة، ليس فقط لتقدير الإيرادات والنفقات، بل لصياغة رؤية استراتيجية قائمة على المعطيات الرقمية الدقيقة.
تؤكد تقارير PwC وDeloitte لسنة 2025 أن 70% من كبريات الشركات العالمية تعتمد على النماذج المالية في توجيه قراراتها الاستراتيجية، بينما يُصرّح 58% من المدراء التنفيذيين الماليين أنهم يستخدمونها لتقليل المخاطر وتحسين قدرة الاستجابة السريعة للتغيرات
في السياق المغربي، أطلقت الدولة مجموعة من الإصلاحات الجوهرية في البيئة الاقتصادية، من بينها رقمنة المعاملات الضريبية، إصلاح المنظومة الجبائية، تعزيز مهنة المحاسبة، وإطلاق مشاريع تدبير استراتيجي مبنية على الحوكمة، مما مهّد الطريق أمام تحول نوعي في عقلية الإدارة المالية للمؤسسات الوطنية.
وفي هذا الإطار، يتجلى دور المحاسب كمحور رئيسي في إعداد النماذج المالية، ليس فقط كخبير في التوازنات الرقمية، بل كفاعل تحليلي يُحوّل البيانات إلى رؤى، ويقرأ المؤشرات الاقتصادية في ضوء الواقع القانوني والاجتماعي، ويُسهم في اتخاذ قرارات استراتيجية مدروسة.
من الناحية الاقتصادية، نجد أن هذا التحول يتماشى مع مبادئ المدرسة الكلاسيكية الحديثة (New Classical Economics)، التي تؤكد على أهمية التوقعات الرشيدة والتحليل الكمي في صنع القرار، حيث يفترض أن الأفراد والمؤسسات يتخذون قراراتهم على أساس نماذج رياضية دقيقة مبنية على بيانات مستقبلية
. أما من الناحية الاجتماعية، فإن الاعتماد على النمذجة المالية يسهم في خلق الثقة داخل المؤسسة، ويوسّع من دائرة المشاركة في اتخاذ القرار، كما يعزز من العدالة التوزيعية داخل المقاولات، ما ينسجم مع أطروحة بيار بورديو حول رأس المال الرمزي، حيث يكتسب القرار المالي شرعيته عندما ينبني على الشفافية والمعرفة لا على العشوائية.
قانونيًا، تستند النمذجة المالية إلى إطار مؤسساتي متين يُنظّم التزامات المقاولات، وخاصة ما يتعلق بقانون الشركات، قوانين المالية، والأنظمة المحاسبية المعتمدة في المغرب، بما يضمن احترام قواعد الالتزام، الإفصاح، والمساءلة.
ويُعزز هذا التوجه التفعيل المتزايد لمقتضيات القانون رقم 15-95 المتعلق بمدونة التجارة، والقانون 17-95 المنظم لشركات المساهمة، في ضوء المعايير الدولية للإبلاغ المالي IFRS. وبين هذا
وذاك، تظهر الدولة المغربية كفاعل مؤسسي، يواكب هذا التحول بنجاعة من خلال مبادرات كبرى مثل: إطلاق الميثاق الجديد للاستثمار 2023–2035، الرقمنة الكاملة للتصريح الضريبي عبر
منصة Simpl, دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة بنماذج مالية معيارية عبر برامج Intelaka وForsa، ومأسسة دور المحاسبة كمهنة حيوية تتقاطع مع الاستراتيجية والتنمية. النموذج المالي
الحديث يتيح إمكانيات تخطيط طويلة المدى (20 إلى 30 سنة)، ويُمكن من بناء سيناريوهات بديلة تأخذ بعين الاعتبار التغيرات المناخية، التحولات الديموغرافية، والتقلبات النقدية. كما يُسهم في تقييم
دقيق للجدوى الاستثمارية عبر مؤشرات حاسمة مثل NPV (القيمة الحالية الصافية) وIRR (معدل العائد الداخلي)، بعيدًا عن التقديرات العشوائية. أما المحاسب، فهو الضامن الأول لسلامة هذه النماذج، والمؤهل لفهم تعقيداتها التقنية والمالية، وتكييفها مع الخصوصية القانونية والجبائية الوطنية.
هو ركيزة لا غنى عنها، ودوره لم يعد تقنيًا فقط، بل أصبح استراتيجيًا ومرجعيًا في كل قرار مؤثر داخل المؤسسة. التميز الإداري يبدأ من تحليل الأرقام، لكن القيادة الحقيقية تبدأ من قراءة المستقبل من خلال الأرقام، وهذا ما تفعله النماذج المالية الحديثة، عندما تتحول من أداة دعم إلى رافعة قرار
فهل تستغل مؤسستك قوة النمذجة المالية في زمن التحول؟ أم ما تزال تتخذ قراراتها في الظلام الرقمي؟ الجواب قد يحدد من سيقود السوق… ومن سيتأخر عنه.



