المواطن24
في قلب المملكة، حيث تُحاك وعود التطور والعمران، تقع اليوسفية بن جرير، لا كشاهد على النهضة، بل كشاهد قبر على إهمال يبتلع البشر بلا رحمة.
ففي ظرف ثمانٍ وأربعين ساعة فقط، انكشفت هشاشة منظومة كاملة، وانهارت كل الشعارات البراقة عن السلامة وحقوق العمال، لتسقط معها جثتان ترويان حكاية القيمة الحقيقية للإنسان في معادلة الربح والخسارة. لم تكن هذه حوادث منفصلة، بل كانت فصولاً متلاحقة من مأساة واحدة، عنوانها الرئيسي هو “الاستخفاف بالحياة”
. لم يكن العامل الأول ضحيةً لحادث ميكانيكي معقد، بل سقط بفعل عضة. نعم، عضة قطة مسعورة في مكان يفترض أن يكون خاضعاً لأشد معايير الأمان والرقابة الصحية صرامة. هذه العضة لم تكن مجرد حادث عابر، بل كانت صفعة مدوية على وجه المنظومة بأكملها. إنها تطرح أسئلةً محرجةً عن بيئة العمل التي يسمح فيها لحيوان مسعور بالتجول بحرية، وعن الإجراءات الوقائية المفقودة، وعن الثقافة السائدة التي تتعامل مع مثل هذه المخاطر بازدراء.
إن موت إنسان بسبب عضة حيوان في موقع عمل حديث هو دليل دامغ على أن “التطور” قد يكون شكلياً، بينما العقلية لا تزال تعيش في عصور الظلام، حيث لا قيمة لعامل إلا بمقدار ما ينتج، فإذا مرض أو تعرض للخطر، أصبح حملاً ثقيلاً. أما العامل الثاني، فكان مصيره أكثر قسوةً ودراماتيكية. لقد سحقه فم آلة الجرافة العملاق. هذه الآلة، التي صممت لتعمر الأرض، تحولت في غياب أبسط شروط السلامة إلى أداة موت. إن موته ليس مجرد رقم في إحصائية، بل هو شهادة على الإهمال المتعمد.
فتشغيل مثل هذه الآليات الخطرة دون تدريب كافٍ، ودون إشراف حازم، ودون صيانة دورية، هو بمثابة إرسال عمال إلى ساحة معركة بلا سلاح. إنه قرار إداري، واعٍ أو غير واعٍ، بأن تكلفة تحسين ظروف العمل أغلى من قيمة الحياة البشرية نفسها.
إن تقارب زمن الحادثتين، في غضون يومين فقط، هو الجرح الأعمق والدليل الأكثر إقناعاً. فهو لا يشير إلى خلل عابر، بل إلى انهيار منهجي شامل. إنه يصور بيئة عمل مسمومة، حيث الخطر كامن في كل زاوية، من لدغة حيوان إلى سحق آلة. هذا التقارب الزمني المرعب يخبرنا أن الحوادث هنا ليست استثناء، بل هي القاعدة. إنه نظام فاشل لا يحمي من يبنون به مجد الآخرين.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأكبر معلقاً في الهواء مثل رائحة الموت: كم من العمال يجب أن يموتوا حتى تتحرك الضمائر؟ إن هذين العاملين، وغيرهما الكثيرين الذين لا تصل أخبارهم، ليسا “لا يساويان شيئاً” كما توحي ممارسات المسؤولين.
إنهما أبوان، وأخوان، ومصدر رزق لأسر، ولبنة في بناء وطن. لكن النظام الذي يعملان فيه حولهما إلى رقم يمكن تعويضه، أو حادثة يمكن التغطية عليها. إنها الجريمة الحقيقية: ليس الموت نفسه، بل الاستعداد المجتمعي والمؤسسي لقبوله كأمر واقع.
حتى متى ستظل الحياة البشرية أرخص من تكلفة تحسين نظام السلامة؟ الإجابة، للأسف، تكمن في جوف الجرافة التالية، وفي عضة الحيوان المسعور القادمة، ما لم نقرر جميعاً أن الإنسان هو الغاية، وليس مجرد وسيلة.



